فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} من قولهم: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه، والشقاوة سوء العاقبة.
وقيل: الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة.
أطلق اسم المسبب على السبب قاله الجبائي.
وقيل: ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك.
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم: {شقاوتنا} بوزن السعادة وهي لغة فاشية، وقتادة أيضًا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه كذلك إلاّ أنه بكسر الشين، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز.
قال الفراء: أنشدني أبو ثروان وكان فصيحًا:
علق من عنائه وشقوته ** بنت ثماني عشرة من حجته

وقرأ شبل في اختياره بفتح الشين وسكون القاف.
{وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} أي عن الهدى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار، فقالوا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي من جهنم {فَإِنْ عُدْنَا} أي إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك {فَإِنَّا ظالمون} أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولًا ثم سومحنا فظلمنا ثانيًا.
وحكى الطبري حديثًا طويلًا في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض.
قال ابن عطية: واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته، لكن معناه صحيح ومعنى {اخسؤوا} أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت، يقال: خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعديًا ولازمًا.
و{لا تُكَلّمُونِ} أي في رفع العذاب أو تخفيفه.
قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلاّ الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}.
قرأ أبيّ وهارون العتكي {أَنَّهُ} بفتح الهمزة أي لأنه، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديمًا وبقية الدهر.
وقرأ حمزة والكسائي ونافع {سِخْرِيًّا} بضم السين وباقي السبعة بالكسر.
قال الزمخشري: مصدر سخر كالسخر إلاّ أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزء في قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه.
وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء: ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخر وهو الاستهزاء.
ومنه قول الأعشى:
إني أتاني حديث لا أسرّ به ** من علو لا كذب فيه ولا سخر

وقال يونس: إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر.
قال ابن عطية: وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن. وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلاّ التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس. انتهى.
وكان قد قال عن أبي عليّ يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله: {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} انتهى قول أبي عليّ ثم قال ابن عطية: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله: {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} لما تخلص الأمر للتخديم انتهى.
وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحًا لأن ابن محيصن وابن مسلم كسرا في الزخرف، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل.
{فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} أي هزأة تهزوؤن منهم {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي، وأسند النسيان إلى فريق المؤمنين من حيث كان سببه.
وقرأ زيد بن عليّ وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع {إِنَّهُمْ هُمُ} بكسر الهمزة وباقي السبعة بالفتح، ومفعول {جَزَيْتُهُمُ} الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني.
وقال الزمخشري: في قراءة من قرأ {أَنَّهُمْ} بالفتح هو المفعول الثاني أي {جَزَيْتُهُمُ} فوزهم انتهى.
والظاهر أنه تعليل أي {جَزَيْتُهُمُ} لأنهم، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل.
و{الفائزون} الناجون من هلكة إلى نعمة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}.
أي ملكتَنا {شِقْوَتُنَا} التي اقترفناها بسوءِ اختيارِنا كما ينبىءُ عنه إضافتُها إلى أنفسِهم. وقرئ {شَقوتُنا} بالفتحِ و{شقاوتُنا} أيضًا بالفتحِ والكسرِ {وَكُنَّا} بسببِ ذلك {قَوْمًا ضَالّينَ} عن الحقِّ ولذلك فعلنا من التَّكذيب وهذا كما ترى اعترافٌ منهم بأنَّ ما أصابهم قد أصابَهم بسوءِ صنيعهم وأمَّا ما قيل من أنَّه اعتذارٌ منهم بغلبة ما كُتب عليهم من الشَّقاوةِ الأزليَّةِ فمع أنَّه باطلٌ في نفسِه لما أنَّه لا يُكتبُ عليهم من السَّعادةِ والشَّقاوةِ إلا ما علمَ الله تعالى أنَّهم يفعلونَه باختيارِهم ضرورةَ أنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ يردُّه قولُه تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} أي أخرجْنَا من النَّار وارجعنا إلى الدُّنيا فإنْ عُدنا بعد ذلكَ إلى ما كُنَّا عليه من الكُفر والمَعاصي فإنَّا مُتجاوزون الحدَّ في الظُّلم ولو كانَ اعتقادُهم أنَّهم مجبورون على ما صَدَر عنهم لما سألُوا الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ولما وَعدُوا الإيمانَ والطَّاعةَ بل قولُهم: {فإنْ عُدنا} صريحٌ في أنَّهم حينئذٍ على الإيمانِ والطَّاعةِ وإنَّما الموعُود على تقدير الرَّجعةِ إلى الدُّنيا الثَّباتُ عليها لا إحداثُهما.
{قَالَ اخسئوا فِيهَا} أي اسكتُوا في النَّارِ سكوتَ هوانٍ وذِلُّوا وانزجرُوا انزجارَ الكلابِ إذا زُجرتْ. من خسأتُ الكلبَ إذا زجرتَه فَخَسِأ أي انزجرَ {وَلاَ تُكَلّمُونِ} أي باستدعاءِ الإخراجِ من النَّار، والرَّجْعِ إلى الدُّنيا وقيل: لا تُكلِّمونِ في رفع العذابِ ويردُّه الَّعليلُ الآتِي وقيل: لا تُكلِّمونِ رأسًا وهو آخرُ كلامٍ يتكلَّمونَ به ثم لا كلامَ بعد ذلكَ إلا الشَّهيقُ والزَّفيرُ والعُواءُ كعواءِ الكلبِ لا يَفْهمون ولا يُفهمون ويردُّه الخطاباتُ الآتيةُ قطعًا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ} تعليلٌ لما قبله من الزجرِ عن الدُّعاءِ أي أنَّ الشَّأنَ. وقرئ بالفتحِ أي لأنَّ الشَّأنَ {كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى} وهُم المُؤمنون. وقيل: هم الصَّحابةُ. وقيل: أهلُ الصُّفَّةِ رضوان الله تعالى عليهم أجمعينَ {يَقُولُونَ} في الدُّنيا {رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} أي اسكتُوا عن الدُّعاءِ بقولكم: ربنا الخ، لأنَّكم كنتُم تستهزئُون بالدَّاعينَ بقولهم: ربنا آمنا الخ، وتتشاغلُون باستهزائِهم {حتى أَنسَوْكُمْ} أي الاستهزاءُ بهم {ذِكْرِى} من فرطِ اشتغالِكم باستهزائِهم {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غايةُ الاستهزاءِ.
وقولُه تعالى: {إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم} استئنافٌ لبيانِ حُسنِ حالِهم وأنَّهم انتفعُوا بمَا آذوهم {بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرِهم على أذيَّتِكم. وقولُه تعالى: {أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون} ثاني مفعولَيْ الجزاءِ أي جزيتُهم فوزَهم بمجامعِ مراداتِهم مخصُوصينَ به. وقرئ بكسرِ الهمزةِ على أنَّه تعليلٌ للجزاءِ وبيانٌ لكونِه في غايةِ ما يكونُ من الحُسنِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}.
أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومىء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم.
وقرأ شبل في اختياره {شِقْوَتُنَا} بفتح الشين. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم {شقاوتنا} بفتح الشين وألف بعد القاف. وقرأ قتادة أيضًا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه {شقاوتنا} بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي، وقال الجبائي: المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازًا من باب إطلاق المسبب على السبب، وأيًا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية؛ ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا: ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا {فِيهَا وَكُنَّا} بسبب ذلك {قَوْمًا ضَالّينَ} عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا، ولا يجوز أن يكون اعتذارًا بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قومًا ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قومًا ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فءن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} أي ربنا أخرجنا من النار وارجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافًا فإنه كثيرًا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه؛ ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافًا لأنهم إنما قالوه تمهيدًا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت، ثم إن القول لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا.
وفي قولهم: {عُدْنَا} إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل.
{قَالَ} الله سبحانه إقناطًا لهم أشد إقناط {اخسئوا فِيهَا} أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية {وَلاَ تُكَلّمُونِ} باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا، وقيل: لا تكلمون في رفع العذاب، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي، وقيل: لا تكلمون أبدًا وهو آخر كلام يتكلمون به.
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسئوا فيها ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم» وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم ينادون مالكًا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عامًا لا يجيبهم ثم يجيبهم {إنكم ماثكون} [الزخرف: 77] ثم ينادون ربهم {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107] فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فما نبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدًا يقولون: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] فجيبهم الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير} [غافر: 12] ثم يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37] ثم يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} [المؤمنون: 106، 107] فيجيبهم الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108] فلا يتكلمون بعدها أبدًا، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)}.
{إنَّهُ} تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي وهارون العتكي {أَنَّهُ} بفتح الهمزة أي لأن الشأن {كَانَ} في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها {فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى} وهم المؤمنون، وقيل: هم الصحابة، وقيل: أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
{يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}.
{فاتخذتموهم سِخْرِيًّا} أي هزؤًا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم {رَبَّنَا} [المؤمنون: 109] إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفًا من هذا اليوم بقولهم: {رَبَّنَا ءامَنَّا} [المؤمنون: 109] إلخ {حتى أَنسَوْكُمْ} بتشاغلكم بالاستهزاء بهم {ذِكْرِى} أي خوف عقابي في هذا اليوم.
{وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء، وقيل: التعليل على معنى إنما خسألناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكرى بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم، وقيل: خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى تلك ذكرى في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم، ثم قيل: وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} [المؤمنون: 109] إلخ تعليلًا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه: {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولًا في قوله تعالى: {مّنْ عِبَادِىَ} [المؤمنون: 109] وختمه بقوله سبحانه: {إِنِى جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: {هُمُ الفائزون} [المؤمنون: 111] وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي {سِخْرِيًّا} بضم السين وباقي السبعة بكسرها، والمعنى عليهما واحد وهو الهزؤ عند الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه. وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء: مضموم السين بمعنى الاستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الاستهزاء، وقال يونس: إذا أريد الاستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر، وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري.
{إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم، وفيه إغاظة لهم، وقوله سبحانه: {أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون} إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة، ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللًا تامّة يجوز تعددها.
وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع {أَنَّهُمْ} بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء، وقيل: مبين لكيفيته فتدبر. اهـ.